بكاء على الأطلال

عندما أقرأ أحيانا عن سياسات تهويد الأقصى التي تتبعها سلطات الإحتلال في القدس الشريف، من اقتحامات للمستوطنين، إلى حفر سلسلة من الأنفاق تحت المسجد الأقصى مما يهدد أساسات المسجد الأقصى، إلى طرد المقدسيين الفلسطينين من البلدة القديمة، إلى بناء كنائس يهودية بالقرب من باحات الأقصى...إلخ ينتابني شعور بالغضب وتفور مشاعري على مايمكن أن يحدث لأولى القبلتين وتفور عروقي لما يُفعل لتغيير التاريخ بالقدس لصالح الصهاينة... ولكني عندما قرأت كتاب من مكة إلى لاس فيڨاس لكاتبه علي عبد الرؤوف عن مافعله آل سعود بمكة المكرمة وبتراثها ومعالمها التاريخية وأماكنها المقدسة، غلب شعور الحسرة والإحباط والندم على أي شعور ٱخر رغم أن مكة المكرمة هي أقدس الأمكنة. لماذا؟

سنة 1925، وعندما دخل ٱل سعود إلى مكة المكرمة محتلّين، أول مافعلوه هو هدم قبر سيدة البشرية الأولى حواء. في السنوات والعقود التي تلت، وبوتيرة أسرع منذ الثمانينات، هُدم بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، وحوّلوا بيت سيدتنا خديجة رضي الله عنها إلى مغسلة عامة، وتم تحويل المكان الذي وُلد فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى سوق للماشية وبعد احتجاجات من أهل مكة تم تحويله إلى مكتبة. قاموا أيضا بهدم بيت أبو بكر الصديق وبُني مكانه الٱن فندق الهيلتون، حتى التلال والجبال التي تشهد على تواريخ وأحداث عظام لم تسلم من الهدم والتحوير...الخ كل هذا في مسعى منهم لجعل مكة مدينة عالمية تنافس مدن وعواصم أوروبا في الأكبر والأطول والأكثر إبهارا، كاشفين بذلك عن سخافتهم وسطحيتهم وخوائهم الروحي، ومحولين بذلك مكة من مدينة روحية مقدسة إلى مدينة سياحية رأسمالية استهلاكية تحت مسمى "السياحة الدينية" وبغطاء " زيادة الطاقة الاستيعابية لخدمة زوار بيت الله الحرام"، متسلحين بفتاوى الوهابية التي شرعت لهم هدم هذا الإرث التاريخي لمكة المكرمة.

هاته المشاريع الخرسانية القبيحة التي تلتهم وتخنق مكة المكرمة دفعت العديد من نقاد العمارة والعمران الدوليين لاستنكار مايحدث، فقد أطلق الناقد المعماري لجريدة الڨارديان أوليفر واينرايت لقب "صفوف خبز التوست" على احد المشاريع المستقبلية لمكة سنة 2012، وأطلق ناقد جريدة النيويورك تايمز نيكولاي أوروسوف على سُعار التوسيع والتشييد بمكة لقب "السخف المعماري" سنة 2010. إذ لا يمكن اعتبار برج الساعة بمكة المكرمة إلا "تقليدا مسطحا وساذجا وعديم الذوق لبرج ساعة (بيج بن) في لندن" حسب تعبير د.علي عبد الرؤوف مؤلف الكتاب.

في المقابل، عندما تزور مدينة الفاتيكان، تجدها محافظة على عبقها التاريخي، وليس هنالك مبنى يعلوا فوق مبنى كنيسة "سانت بيتر"، والبناء هناك محكوم بقوانين عمرانية صارمة. وفي مدينة القدس والمسجد الأقصى والبلدة القديمة لم تجرؤ اسرائيل على فعل مافعله ٱل سعود بمكة، "فرغم الجهد الحثيث الذي يُبذل من قوى الاحتلال لتهويد القدس، ولكن هاته الجهود تتم دون الإجهاز على قيمة المكان وتدمير مقوماته التراثية والتاريخية، وإفقاده مكوناته الروحانية والقدسية". يمكن رصد الفرق الكبير أيضا في رد فعل كل من السعودية وإسرائيل على احتجاجات تركيا على العبث بالأماكن المقدسة، فعندما احتجت تركيا سنة 2007 على حفريات المسجد الأقصى استجاب رئيس الوزراء الإسرائيلي ٱنذاك ايهود اولمرت بالسماح للجنة خبراء اتراك بالتحقيق في هاته الحفريات بالقدس ومدى إضراراها بالمسجد الأقصى، بينما كان رد السعودية على احتجاج تركيا حول قرار هدم قلعة أجياد التاريخية (مكان برج الساعة الٱن) بالمضي قدما في القرار وهدمها بسرعة، والتحذير من أي تدخل في قرارات السعودية.

يقول الدكتور علي عبد الرؤوف في كتابه:" بينما نرى مشروعا فريدا للحفاظ على مقر البابوية في الفاتيكان، وتحويل مسؤولية صيانته إلى مسؤولية عالمية، وبينما نرى جهود إسرائيل للسيطرة على القدس، ولكن مع فهم كامل لقيمة سياقه التاريخي والتراثي، نقف مصدومين أمام حالة المدينة المقدسة مكة المكرمة."

هذا التدمير و "التخريب الثقافي" الممنهج لمكة المكرمة ليس عن جهل أو سوء تقدير، اذ يقابله اهتمام حثيث لٱل سعود بالحفاظ على مدينة الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، وحرص دقيق على إبقاء المدينة بنمطها القديم لتكون "بوابة ثقافية" للترويج لتاريخ من لا تاريخ له، فٱل سعود يرون ٱن تراثهم أولى بالحفاظ من تراث ٱل البيت.

لقد كان ينتابني شعور الغضب عند سماع مشاريع التهويد بالأقصى لأن هناك أملا باستعادتها، ولكن هذا الأمل غير موجود في حالة مكة المكرمة، فحسب "مؤسسة التراث الإسلامي" ورئيسها عرفان العلوي، 98℅ من تراث مكة المكرمة تم تدميره، وبالتالي فات الأوان، ولم يبق للمرء إلا أن يتحسر ويندم ويُحبط.

علق أحد قراء الكتاب قائلا:" مكة التي تمنيتها فيها لافتات تخبرك أنك تجتاز حي بني سلمة، وأنك مارٌ بمزرعة أبي بكر في العوالي، وأن مكان الخندق الشهير أمامك، وأن على يسارك الٱن مر الصحابي الذي ارسله رسول الله ليخبره اخبار العدو، وأنك الآن في بيت الأرقم بن أبي الأرقم، وأن قرار معركة أُحد اتخذ هنا، وأن المزرعة التي أمامك هي مزرعة اليهودي الذي حثا التراب على الجيش وهو في طريقه إلى أحد، وأن هذه هي الحظيرة التي جمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار عندما وجدوا عليه موجدة، وأن هذا هو البئر الذي سقط فيه خاتم النبي، وهذا هو المكان الذي عفى الرسول صلي الله وسلم فيه عن المشركين بعد الفتح.
تمنيت صوراٌ أخري لمكة والمدينة، صور عباقة التاريخ وروحانية المشاعر المقدسة..... العبق الذي ما زالت تحتفظ به مدينة القدس رغم كل ما يحاك ضدها"

مكة في أغلبها الٱن، هي للأسف، فنادق "الفيرمونت" و "الهيلتون" و "الريزيدنس" الفاخرة والتي لن تستطيع حتى ان تتعتب ابوابها لغلائها مذكرة إياك بالطبقية المجتمعية التي أتيت للحج متجردا منها، مكة الٱن هي في أغلبها الأبراج الصمّاء العملاقة المتوحشة المملوءة بٱلاف المتاجر والماركات العالمية لتحثك على التسوق. لقد أصبحت السمة العمرانية لمكة الٱن تشترك مع أغلب المدن الاوروبية و الخليجية في "التشابه الممل والرتابة المكانية والبصرية والتشكيلية".

https://www.aljazeera.net/midan/art/2017/8/30/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AF%D9%85%D8%B1%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B


You'll only receive email when they publish something new.

More from صلاحيات
All posts